الأربعاء، 19 أكتوبر 2016

المؤثرات الصوتية في سينمائية البئر ( صاعدا إلى أسفل البئر للشاعر دخيل الخليفة )

23519939


في مجموعته الأخيرة ( صاعدا إلى أسفل البئر ) يبنى الشاعر دخيل الخليفة نصوصه الموغلة في الألم بصور سينمائية تمزج واقعها بالتخيل ,التخيل الذي قد يجعلك أحيانا تستلذ بجمالية الحزن وتتمنى أن يستمر في توليد صور النص والديوان موزع بين قسمين الثاني هو شعر إيقاعي يحمل مفتاح القراءة في عنوانه الثانوي ( موسيقى مستأجرة ليوم مضى ) والتي تتشاكل به الصحبة مع الإيقاع التفعيلي الحديث وتتداخل في بنية النص وانسيابية موسيقاه وهو يتنقل بين الحديث عنها إلى مخاطبتها ومن مخاطبتها كنبؤة شاعرية الى الحديث عنها كجرح ذاكرة لم يندمل وتبرز فيه الأفعال والتكرارات الحركية التي توافق المعنى في تدفقه والقسم الأول (غرفة لا تتسع للرقص ) هو النثر الفوقي الذي لا يخلو من مؤثرات صوت إيقاعية في الكثير من نصوصه معتمدة على صوت الحرف وصوت المفردة المكررة بذاتها أو بتنوع يشبه الجناس ويكونه ولكنه في ذات الوقت يحافظ على هويته النثرية وهو من المجموعات النثرية القليلة التي لحظت بها ذلك التنوع الموسيقي والمخيال التصويري السينمائي وسأشير إلى بعض المؤثرات الصوتية مثل الإعتماد على نغمة الحرف الواحد وتكراره بين جمل القصيدة حتى يصل إلى ذروة إيقاعية نثرية متوافقة مع شاعرية الحدث كتجلي صوت الحاء موسيقيا في ( ما يكفي لتأبين طائر ) الذي يبدأ ب ( وحيدا...) وييظهر ويخبو صوت الحاء في سطور النص بشكل راقص ومنفرد بكلمات (مزدحم ) (حافة ) (رحمي ) موزعة حتى يصل إلى قمة تجليه الإيقاعية في (لم أكن وحيدا حينما صافحت نفسي ) وهي ايضا قمة عاطفية في النص وبعدها يتحول الى موضوع اخر ونجد ذات التقنية مع صوت حرف العين يرقص منفردا بين السطور حتى يصل الى قمة عاطفية أخرى حين يقول ( أنا العش المبعثر على أوتار الريح ) وفي تقنية أخرى يستخدم مفردة كاملة لإضفاء الإيقاع الصوتي بتكرار كلمة أو جملة مثل ( يمكنني أن ) كبادئة في شطورنصه النثري المتقارب في طول جملته مع كل بادئة تقريبا إلا ما نذر ليكتمل المعنى كمشهد سينمائي موغل في عاطفة التجربة (يمكنني أن أجلسَ على الرصيف وأخاطب الهواء دون أن يلتفت إلي ) قبل أن تتصارع جمل (يمكنني ) تمهيدا لنقطة تنوير في الختام وهذه بعض العينات من المؤثرات الصوتية المتزامنة مع مؤثرات الصورة السينمائية التي وضع لها الشاعر خارطة قراءة في عنوان النص ( صاعدا إلى أسفل البئر ) ما زجا ما يمكن تخيله بقيمة خيالية أكبر كصورة صعود البئر كانت ستعطيه زخما تأويليا وصورة الصعود من البئر ستعمق المعنى العاطفي وتضفي جانب العزلة والإنفراد في محاولة الهروب منها ولكن الصعود إلى أسفل البئر وهو قمة هذا التعميق العاطفي فالسقوط أمر قد لا يكون اختياريا من قبل من يمارسه أما مقلوبه الصعود فهو اختياري مع إصرار على تحقيق هدف أو مع يقين بتحقق هدف ما أو باستحالة تحققه إنها سوداوية محضة قد تقبل التأويل بطريقة معاكسة وكوني لا أفضل فضح النصوص والإقتباس منها سأكتفي بما أشرت إليه من صور صوتية كان من الضروري كتابتها لتدعيم تلك الفكرة السينمائية في طرح الواقعي بصورة خيالية وأحيانا تحتاج إلى المزيد من التأمل لتصبح خيالا قابلا للتخيل ...

الجمعة، 14 أكتوبر 2016

حول نسيج "الحقيبة الجلدية" للكاتب الصحفي علي سعيد




علي سعيد مع البرتو ما نغول  

 
---
قراءة في كتاب «الحقيبة الجلدية»..لعلي سعيد
--
رائد أنيس الجشي 

يعتمد الكاتب والصحفي علي سعيد في بناء كتابه (الحقيبة الجلدية: دار أثر 2016) على وحدة أكبر من ثنائية السؤال والجواب المتعارف عليها في المقابلات الصحفية وذلك بإضافة مُكمّلات معرفية تدعم النص اللفظي بسيمائية الشخوص حتى تكاد تتخيل تجاعيد الزمن وتستنشق رائحة المكان وتستمع اللغة الصامتة التي لا تعني هنا لغة الإشارة بل دلالة الخطاب في سياقها الاجتماعي والتي تجعل المتلقي للحوار يرى أكثر مما يقرأ ويشعر معه بعاطفة المكان. تلك الخاصية التي تتلبس الشعراء فلا يتحدثون عن الحزن بل عن طريقة تدخين السيجارة والتنهد قبل متابعة الحديث بعد تمرير نظرة إلى الحبيبة الصامتة التي تشحذ الأمل والقوة بنظرة أو ابتسامة عفوية، كما في قصة (باسم حمد.. منحوت الجحيم). فالحقيبة الجلدية إذن، كتاب حوارات ولكن بطريقة السرد، بكل ما يقتضيه من تقنيات فنية برع فيها المؤلف، وهو ينقلنا بمتعة من نص سردي لآخر وذلك بعد أن «أعاد الكاتب الحوارات التي أجراها إلى الجسم الحكائي بوصفه جزءًا لا ينفصل عن البناء الأشمل - القصة - هادما صيغة السؤال والجواب التقليديتين ليصحب القارئ من خلال سرده إلى ما وراء الديالوغ» وهو ما يمكن أن يسجل لعلي سعيد، في تقديمه مقترحا فنيا وبنائيا جديدا، يغير مفهومنا السائد حول طبيعة كتبة الحوارات، فنحن بالتأكيد ليس أمام كتاب مقابلات صحافية وإنما لغة وسرد والأهم خلاصة تجربة تمتد من العام 2005 إلى 2015، أي عمر قصص «الحقيبة الجلدية».الكتاب إذن، ليس مقابلة وليس حوارًا متبادلًا بين طرفين وحسب إنه أيضا جزء من السيرة التي تعود للحياة لتتحرك من جديد. زد على ذلك، أننا لو عَرينَّا الكتاب من السرد وصيغتي السؤال والجواب فإننا سنحصل كذلك على مؤَلف قيم من عدة فصول فنية، ثقافية أدبية، تاريخية، إنسانية، أخلاقية وفكرية مع شخصيات مؤثرة في مجالها كأدونيس، ألبيرتو مانغويل، نصر حامد أبوزيد، محمد أركون، أحلام مستغانمي، قاسم حداد..إلخ ولذلك ربما يتعين على المتلقي أن يتحرر من أدوات قراءة المقابلات الشخصية وأدوات قراءة الرواية؛ لأنه وإن كانت ثمة تقاطعات بينهما مع أسلوب الكتاب إلا أنّه وبكل تأكيد ليس أحدهما. لابد من اجتراح أدوات متقاطعة عند تفكيك النسيج أو استبعادها تمامًا لتلقي المعرفة والانجذاب جهة الفن من ناحية روحية وإنسانية. كان عمر أبو ريشة يرى أن بيت المفاجأة هو البيت الأخير ودونه تكون القصيدة عادية ويرى إدجار آلان بو الشخصيات التي تستحق أن يكتب عنها هي تلك المعقدة جدا التي تليق بفيلم سينمائي وفي بعض الحوارات يركز علي سعيد على أن تكون ذروة الدراما في الختام، الختام الدرامي السينمائي حتى في واقعيته ففي حواره مع نحات عراقي مغمور نتلمس تجسيد هذا «التكنيك» في الكتابة. لذا علينا أن نلتفت إلى أن الشخوص وإن كانت واقعية إلى أنها تصل في نهاية القصة/الحوار إلى تلك النقطة العاطفية الدرامية التي تنحو أكثر باتجاه الغوص في الهوامش الإنسانية.

التفاصيل الجانبية في الحقيبة الجلدية لا يمكن إغفالها في كتاب الحقيبة الجلدية، ففي قصة لقائه بالضيف يلتقي بشخص آخر يمر به مرورًا عابرًا وتَتسلَّلُ قصة صغيرة جدًا مع هذا الشخص فمثلا وهو يلتقي بأدونيس يصادف أركون يتذكر أركون مرة أخرى في لقاء مع نصر حامد أبو زيد إلا أن هذه الشخصية ليست شخصية عابرة في الكتاب إنها شخصية رئيسية ومهمة فيه كما هي في الواقع. هكذا يستخدم على سعيد تقنية الإلماح والتمهيد كروائي مجيد لرواية واقعية وقد يحدث أن يلتقي هو مع ذات الشخصية أكثر من مرة في ظروف مختلفة تكون تلك اللقاءات كنقاط انعطاف تؤدي إلى الحوار وكأن الصحفي ينمو داخله بمصادفات حينًا وتعمدٍ في حين آخر كما حدث مع أدونيس مثلا.

أما حول اختيار زمان ومكان الحوار، فيأتي في لحظة تجليه المناسبة بعد أن تشبع سعيد بالضيف معرفيا وثقافيا وربما شخصيا «مخترعا» بشكل ذكي أسئلة لا استطلاعية فقط بل استفزازية، أحيانا بتمرير رأيه الخاص أو آراء الآخرين المحتملة في سياق الحديث ليحث الضيف على الإفصاح عما في داخله موافقة أو اعتراضا وهو لا يشعر أنه في جلسة استقراء آراء. والجميل أن أدونيس عاد ليظهر كشخصية عابرة ومميزة الأثر في حواراته مع ضيوف آخرين. إن عدم الترتيب الزمني للحوارات سمح لهذه التقنية أن تكون لافتة في الكتاب ككتلة واحدة رغم تجزئها.

التأرجح بخفة بين الزمان والمكان، من التقنيات السردية البارزة التي يستخدمها المؤلف بذكاء حيث نلاحظ الانتقال الزمني من وإلى الحاضر فقد يبدأ الفصل بحديث عن المستقبل عن الموت عن الحزن بلغة تليق به قبل أن يعود النص الى الماضي مع من توفي من ضيوف الحقيبة وكأنه يتحول من حزن واكتئاب على ارتحال قامة فكرية وفنية إلى احتفاء بحياتها كما أن المفردات التي ينتقيها تعاضده في رسم تفاصيل الزمنين وتدس توقيتها خفية في لا شعور القراء إنه يجيد التلاعب بالزمن والاعتماد على ذكاء المتلقي في رسم المشاهد وهذا يجعل من الحوارات التي يجريها أكثر متعة منذ أول عنوان (باسم حمد.. منحوت الجحيم) إلى آخر عنوان يمهد لانتهاء الكتاب في المشوار الأخير بصحبة الروائي المصري الراحل خيري شلبي.

نشرت في


http://www.alyaum.com/article/4161403