ظلال (من ورق الجنة) للشاعر علي مكي الشيخ
الصورة للفنان محمد الخراري
----
هذه المجموعة الشعرية هي مجموعة لعدة تجارب شعرية فضلا عن كونها
مجموعة لعدة نصوص شعرية وهذه التجارب متمايزة لا في الموضوع الرئيسي بها وحسب بل
حتى في أسلوب وتقنيات الكتابة إلا أنني وفي هذه الورقة مهتم بتسليط الضوء على بعض
التجارب تلك التي تحمل تحولا جذريا في مسار واتجاه النص الولائي والمنبري وتثبت أن
الشعر المعاصر ما زال فنا فرجويا حين يتخلص من حصار النظمية وينطلق كمقطوعة أدبية وأن
التعويل على ثقافة المتلقي أثناء الإلقاء والكتابة والانطلاق من الكتابة بدون قيد ما يطلبه السواد
الأعظم من الجمهور أو ما تشجع عليه لجان المسابقات الدينية وغير الدينية التي تشجع
على النظم كمقارنة بين التدريبات العروضية والمنتشرة كالهشيم في الوطن العربي لهو
الطريق الأمثل لخدمة ذات الجمهور وذلك بتقديم إضافة نوعية إلى المكتبة العربية وهذا
لا يعني القطيعة التامة مع المسار العام الموروث والمتداول بين الشعراء والنظام بل
الاحترام المتجاوز للاجتهاد الشخصي فالشعر علاقة الشاعر بالحدث وبالآخر لا إضافة
الإيقاع للمعلومة وكتب السيرة. وهذا يجعلني أشير إلى خمس نقاط أجدها مميزة في
الديوان
1-
العظيم به يحتاج الاعظم
لا احتياج مذنب عاص مبعد عن رحمة الرب ومثقل بذنوب الخطيئة كما هو
النسق المتبع منذ عصور الجاهلية والإسلام الأولى حتى اليوم عند المدح بارتداء لباس
الافتقار والحاجة الملحة خصوصا عند ختام القصيدة ( تبدأ عادة القصيدة بغزل أو حكمة
– ثم وصف ونظم للسيرة – ثم باستنهاض أحيانا أو افتقار وتسول قبول القصيدة في حين
آخر بالختام )كما أن احتياجه ليس احتياج
النبي المؤمن بالمحبوب الساعي لرؤيته ليطمئن قلبه
بل هي حاجة الشاعر موقن العاشق لمعشوقه دون قيد أو شرط
كحاجة وشوق متلقي النور إلى واهب النور, حالة احتياج عرفانية متسقة
منذ بدأ القصيدة حتى ختامها وهذا التناسق بين أنا الشاعر وأنا النص والاتحاد بينه
وبين فيض المحبوب وتوحده به ورفعته به تجعله "عظيما به" يخاطب "الأعظم"
في غالبية النصوص. فلا يقع ككثير من
التجارب القلقة المعاصرة في تناقض بين امتداح انتسابه لهدي المحبوب وتفاخره
بتبعيته على الآخر ثم احتياجه بتسول عاطفي لكونه مذنب عاص بعيد كل البعد عن ذات
الهدي.
في نصه ( رغيف نبي ) يقول:" أتيتك يا مولاي بئري تعطلت/ فلي
دمع يعقوب ولي شكل نوحه" افتقار نبوي العشق والصبر – صبر العظماء على البلاء
والصبر لا يعني الألم بالضرورة) ويضيف بعد بضعة أبيات( تمادى أبو جهل بنا
واستفزنا/ ففي العين أقذاء لكثرة قيحه/ فمن يا ترى إلا إليك رجاؤنا / فأرسل لنا
سيفا خبيرا بكبحه) فدافع الاستنهاض -إن صح التعبير-هنا النصرة والقيادة لا التوبة
ثم يكمل ( وقل جاءكم وعي على شكل حيدر/ يثقف فكرا قد أضل بشطحه ) وهنا يستغل
الشاعر ذاكرة النسق ويطعمها برؤية وعي ايدلوجية يريدها من جسد النص وهذه التقنية
في تطعيم المقطع الختامي بغصن من جسد النص ظاهرة في الكثير من نصوصه كوضوح حنين
العظيم إلى الأعظم حين يقول في نص آخر ( وهبتُك آياتي وإعجاز فكرتي/ وإن من الآيات
ما ليس يوهبُ).أو يقول في ذات النص مخاطبا الإمام الحسن-ع- " تعال فهذا الكون
أرجوحتي أنا ( فإن لم يسعك الكون فالصدر أرحب )"
2-
الحلم مترفعا عن استمطار البكاء
(
وامتحنت المجاز جرة سهم/حمحمت تصنع الردى لشرابك / إن بعض السهام صار نبيا/حين
أدنيته الى أخشابك) صور القتل الأكثر قابلية لاستدرار العواطف واستبكاء الجمهور
يتم تناولها ورؤيتها بمنظور فكري تأملي آخر معاكس ومغاير كاندماج رؤيوي مع الحالة
القدسية التي تحضر النص كمؤثر أول بل كولاية تكوينية ويرسم الاغتيال بعين فنية
معاصرة لا شاهدة ومؤرخة أو مجترة لتأريخ الحدث وبالتالي يكون هناك انتقال سلس في
النص بين الماضي المتذكر والحاضر المعاش في استحضار الواقعة أو اثرها أو استلهامها
لتكون منارا له فالحدث يكتب برؤية وفكر وخيال الشاعر المعاصر – وليس بإضافة إيقاع
إلى الحدث التاريخي.
3- مشروع اللقطة
الواحدة
(ملامح كربلائية) نصوص قصيرة تستلهم رموز كربلاء يستعيد
الشاعر بها ذاته ليكون جزء من النص في زمن الممدوح وغالبًا ما يكون النص اعادة
تعريف للعنوان المتعارف عليه (عنوان اعتيادي) خصوصا اذا كان مجرد اسم الممدوح
وكأنها قطع من مشروع شعري يتوسط المجموعة لها جوها وسياقها المغاير. من الممكن جدا
أن نتخلص من اسم الممدوح ونعرفه في النص
وذلك لأن العمل يرتكز على صفات وسيرة الممدوح كنسيج أساسي في العمل مطعم بكلمات
مفتاحية دالة عليه وعلى جزء من سيرته الذي يناسب عاطفة النص. ولعل (شمائل الوحي )
هي الأكثر كثافة في ذات المشروع
4- اعادة تدوير الإرث
بعض الأبيات الشعرية أو النصوص الدينية المختمرة في ذاكرة الشاعر والحاضرة
في ذاكرة المجتمع يعاد تشكيلها بشكل عفوي وطبيعي بحيث تحيل إلى مشهدها ومناسبتها
وتستعيدها في النص بطريقة عذبة وشاعرية في بعض نصوص الديوان يقول متحدثا عن
كربلاء: ( سأزور ذاتي إن شممت ترابها/فتقول لي ما حيلة التفاح ) ولا رابط واقعي
بين كربلاء والتفاح
إلا ما روي في حديث طويل عن
جبرائيل وما بيده من تفاحة وسفرجلة ورمانة ..ثم بقاء التفاحة وحدها بعد منع
الماء عن الإمام الحسين-ع- وقد استخدم التفاح هنا ككلمة مفتاحية دالة ومشيرة إلا
الحدث
جزء من الحديث( بل كلمة واحدة منه ) يراد به الصورة الجزئية الخاصة
من الحديث
5- الاتكاء على ذاكرة
المتلقي
في قصيدته (فانوس الطهارة ) عن سيدتنا أم سلمة يستخدم علي الشيخ ما
يشبه تقنيته السابقة التي تعامل بها مع رائحة التفاح ولكن بصورة أقل كثافة, وذلك
عند استفادته من ما روي من حديث القارورة التي وهبها الرسول الأعظم لأم سلمة وما
بها من تراب كربلاء وتحوله الى دم عبيط عند استشهد الحسين عليه السلام (وأودعك
المختار تربة كربلا/ بقارورة عرش الإله بها دنى)
رغم أنه لا يشير الى الدم مطلقًا في القصيدة بل يتكئ على ذاكرة
المتلقي ليكمل معه المشهد ويختم بذات التقنية ذات النص فيقول (على بابك المنقوش من
باب فاطم / وقفنا فجودي .. مسنا الضر مسنا
) وهي استفادة واضحة من قصة إخوة يوسف واشارة الى الحدث المشهد فيه واستحضار
عاطفته
( يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا
الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ
عَلَيْنَا ۖ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) جزء يراد به الكل.
...
رائد
أنيس الجشي